مقال رأي
أرى العالم يتغير أمام عيني، يتبدل المشهد السياسي والاقتصادي بوتيرة متسارعة، وتتلاشى معالم الأمس لتكشف عن ملامح جديدة لمستقبل مجهول. ومن بين أبرز هذه التغيرات، تلك التي طالت صورة الولايات المتحدة الأمريكية، تلك القوة العظمى التي طالما اعتبرت نفسها مركز الكون، وحلم ملايين البشر، هل انتهت حقبة “عبادة أمريكا”؟ هذا السؤال المحوري يحفزني على الخوض في دهاليز التحولات الجارية، وتقديم رؤية نقدية تحليلية لما يحدث.
لطالما كانت أمريكا تخدع من حولها على أنها رمزًا للحرية والديمقراطية والازدهار، وقد جذبت إليها أنظار العالم بأسره. فشعار “الحلم الأمريكي” كان بمثابة منارة تضيء طريق الملايين، ونموذجًا يحتذى به في بناء الدول والمجتمعات. ولكن مع مرور الزمن، بدأت هذه الصورة المثالية تتشقق، وكشفت اللثام عن وجهها الأصلي .
الحروب التي لا تنتهي، والتدخلات العسكرية في شؤون الدول الأخرى، فضحت الوجه القبيح للإمبريالية الأمريكية، وأثارت غضبًا عارمًا في العالم. كما أن الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت العالم عام 2008، كشفت عن هشاشة النظام الاقتصادي الأمريكي، وفضحت الكثير من الممارسات المالية المشكوك فيها.
وعلى الصعيد السياسي، شهدت الولايات المتحدة انقسامات حادة، وتصاعدًا في الخطاب العنصري والكراهية. كما أن نظامها السياسي عانى من جمود وتعطيل، مما أضعف قدرته على مواجهة التحديات المعاصرة.
كل هذه العوامل مجتمعة، ساهمت في تراجع مكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وتآكل الثقة بها. فلم تعد أمريكا تمثل القوة الناعمة التي كانت عليها من قبل، ولم تعد قادرة على فرض إرادتها على الدول الأخرى بنفس القوة والسهولة.
و يبدو أن “عبادة أمريكا” قد شارفت على الزوال
وسيظهر عالم جديد لا يخضع لأهواء البيت الأبيض، وفيه ستتغير علاقات بلادنا والدول الأخرى بطرق تفتح آفاقا جديدة …
ما زال العالم يجد صعوبة في قبول هذا الواقع. الجميع لا يزال يؤمن بوهم وجود أمريكا بسبب قواعدها العسكرية وجنودها المنتشرين في كل مكان. لكننا نشهد فعليًا “سقوط إمبراطورية”، وستشهد هذه الأجيال هذا السقوط.
اليوم، أصبحت الولايات المتحدة دولة فقدت رصيدها الدبلوماسي، وسمعتها الدولية، وقدرتها على قيادة العالم، وظهرت كدولة تمارس الإرهاب الاقتصادي. والأهم من ذلك، فقدت حلفاءها التقليديين الكبار.
الغالبية العظمى حول العالم تشعر بالقلق من القوة العسكرية التي تمتلكها هذه الدولة. الجميع يدرك أن هذه القوة لم تعد تحت قيادة “مسؤولة”، وأنها قد تقوم بأفعال متهورة ضد الإنسانية. لأن الولايات المتحدة لم يعد لديها أي “قوة مقنعة” سوى الابتزاز العسكري والضغوط.
“إدارة الإرهاب” العالمية تدفع بالولايات المتحدة نحو الانهيار..
باتت المنظمات الإرهابية اليوم من أقرب حلفاء الولايات المتحدة. ولأول مرة في التاريخ، تعلن دولة أن هذه المنظمات هي حلفاؤها الرسميون والاستراتيجيون، وهو ما لم يحدث مثيل له من قبل. بينما لا نزال نتحدث عن “مكافحة الإرهاب”، تقوم الولايات المتحدة باستخدام هذه المنظمات لضربنا. هذه هي الحقيقة التي يجب أن ندركها!
تحت مسمى مكافحة الإرهاب العالمي، أنشأت
الولايات المتحدة منظمات إرهابية في مختلف أرجاء العالم، و”تشغلها” لخدمة مصالحها. علاوة على ذلك، تنفذ مع إسرائيل إبادة جماعية واضحة المعالم. إن ما ارتكبته من مجازر جماعية في العراق وأفغانستان، وما اقترفته من جرائم مروعة ضد الإنسانية في باغرام وأبو غريب، تكرره اليوم بالتعاون مع إسرائيل في غزة، وفي منطقتنا.
لقد فقدت الولايات المتحدة منذ زمن بعيد الضمير الإنساني المشترك. لولا امتلاكها القوة العسكرية، لكانت دول الاتحاد الأوروبي الكبرى قد أدارت ظهرها لها. حتى هذه الدول لم تعد تعتبر الولايات المتحدة حليفًا وثيقًا، وسنشهد هذا الواقع قريبًا.
ووفقاً للوضع الحالي، غالبا سيفوز ترامب في الانتخابات. إلا إذا حدث تلاعب استثنائي أو تزوير في الانتخابات، فسيكون هذا هو الواقع. ومع ذلك، فإن التزوير الانتخابي الذي شهدناه في 2020، واقتحام الكونغرس، وتوجهات التصادم الداخلي في الولايات المتحدة ستتكرر بقوة أكبر خلال هذه الانتخابات وما بعدها.
و من المحتمل أن يشهد العالم بأسره مسرحية تراجيدية للولايات المتحدة، وسيرى كيف أن القوة العظمى في العالم تتجه نحو صراعات داخلية، وكيف أن التصادم الداخلي يفقدها قوتها، وكيف سيصبح “حالة الصراع الداخلي” أمراً طبيعياً.
و أتوقع حدوث تغييرات غير عادية…
إذن، بعد الانتخابات الأمريكية، أقول إنه ينبغي توقع تطورات غير عادية في مواقف الصين، وروسيا، وتركيا، ودول الاتحاد الأوروبي، وحلقات التحالف التقليدية.
في نهاية المسيرة ، سنرى رئيسًا أمريكيًا تُعلنه وكالات استخباراته الخاصة كعميل، وتعتبره خطرًا وغير موثوق به، وينبذه النظام القائم في الولايات المتحدة ويزدريه.
وأن “عبادة أمريكا” بلغت ذروتها، والآن تتلاشى رويداً رويداً .
و إن ما نشهده اليوم هو انهيار لنظام عالمي قائم على الهيمنة الأمريكية، وظهور نظام جديد أكثر تعددية وأكثر تعقيدًا. فالحروب التي شنتها الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم، وتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى، قد كشفت عن الوجه القبيح للإمبريالية الأمريكية، وأثارت غضبًا عارمًا في نفوس الشعوب.و إن الانتخابات الأمريكية القادمة تحمل في طياتها العديد من المفاجآت، وقد تشهد تطورات غير مسبوقة. فالصراع الداخلي المتزايد في الولايات المتحدة، وتصاعد التطرف السياسي، قد يؤدي إلى زعزعة استقرار النظام السياسي الأمريكي، وتقويض مكانتها كقوة عظمى.