
سوريا
مع سقوط النظام السوري البائد، لم تنتهِ معاناة السوريين، بل بدأت مرحلة جديدة من الفوضى والانفلات الأمني، يقودها من كانوا في يوم من الأيام أدوات القمع والدمار: الميليشيات التي أنشأها النظام بنفسه، وسلّحها، وشرعن وجودها ضد شعبه.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السورية، ومع انشقاق جزء كبير من الجيش والأمن ورفضهم تنفيذ أوامر قتل الشعب، لجأ نظام بشار الأسد إلى الاعتماد على تشكيلات مسلحة غير نظامية، غلب عليها طابع الإجرام والطائفية. سُمّيت هذه التشكيلات بـ”الميليشيات”، وتعددت أسماؤها بحسب المناطق والمصالح، لكن جميعها كانت تخدم غاية واحدة: بقاء النظام بأي ثمن.
الميليشيات.. منبوذو المجتمع في ثياب رسمية
ضمت هذه الميليشيات عناصر من خلفيات جنائية، ملاحقين سابقًا من النظام نفسه بجرائم سرقة وتجارة مخدرات، وأُعيد تأهيلهم كأدوات للقمع بعد أن تم إغداق السلاح والسلطة عليهم. من أبرز هذه التشكيلات:
ميليشيا الدفاع الوطني: وهي الأكبر، ومقرها في معظم المحافظات السورية، مهمتها تنفيذ عمليات الاعتقال والاقتحام وفرض الإتاوات.
كتائب البعث: ذراع بعثي مسلح لتأديب المعارضين في المناطق التي ما زالت موالية ظاهريًا.
وحدات حماية الشعب (YPG): الجناح المسلح لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المرتبط بحزب العمال الكردستاني المصنّف إرهابيًا، والذي تبنى مشروعًا انفصاليًا في شمال شرق سوريا.
ولم تقتصر الميليشيات على السوريين فقط، بل تدفقت ميليشيات طائفية من العراق وإيران ولبنان وأفغانستان، مدفوعة بدوافع أيديولوجية وطائفية، تحت مسميات مثل “لواء فاطميون”، و”حزب الله”، و”النجباء”، و”زينبيون”، وكلها نفذت مجازر بحق المدنيين بحماية مباشرة من النظام.
الفوضى ما بعد الأسد
مع انهيار النظام وهروب بشار الأسد من المشهد، وجدت هذه الميليشيات نفسها بلا قيادة مركزية، فاختارت بعضها حل نفسها بعد نهب المستودعات وسرقة السلاح، واختفت بين المدنيين. لكن بعضها الآخر، وخصوصًا تلك المدعومة خارجيًا كالميليشيات الكردية والدرزية، تمسكت بالسلاح ورفضت تسليمه، مدعية الدفاع عن “حقوق الأقليات”.
أجندات خارجية.. ومشاريع تقسيم
بدلًا من الاندماج في مشروع الدولة الجديدة، بدأت هذه الجماعات برفع شعارات “الحكم الذاتي” و”الفيدرالية”، ورفضت الاعتراف بأي قرار يصدر عن الحكومة الانتقالية، رافضة حتى دخول قوات الأمن إلى مناطقها، تحت ذريعة حماية المدنيين. في الواقع، هي تنفذ أجندات خارجية تسعى إلى بقاء سوريا ضعيفة ومجزأة، وتعمل على تخويف الشعب من عودة الدولة المركزية.
وقد استخدمت هذه الميليشيات وسائل التواصل الاجتماعي لبث الشائعات والتحريض الطائفي، وصولًا إلى تنفيذ عمليات قتل انتقائية ذات طابع طائفي، تهدف إلى ضرب النسيج السوري، وتقديم صورة مشوهة عن الحكومة الجديدة.
المواطن هو الضحية
وسط هذا المشهد، لا يزال المواطن السوري هو الخاسر الأكبر. يتعرض يوميًا للابتزاز والاعتقال والقتل، في ظل غياب تام للأمن، ورفض تلك الميليشيات أي تدخل حكومي حقيقي.
الحل: الحسم لا الحوار
إن محاولة احتواء هذه الميليشيات بالحوار أثبتت فشلها، لأنها لا تؤمن بالدولة ولا تعمل ضمن أجندة وطنية. المطلوب اليوم هو قرار حاسم من الحكومة السورية المؤقتة بفرض سيادة الدولة على كامل الأراضي، وتجريد هذه الجماعات من السلاح بالقوة إن لزم الأمر.
إن استمرار هذه الحالة من الفوضى سيُفشل أي مسعى لإعادة الإعمار، وسيرسخ صورة عجز الحكومة، ما يُعيق عودة الاستثمارات ويفتح الباب أمام مشاريع التقسيم. وعلى المجتمع الدولي أن يدرك أن هذه الميليشيات هي الوجه الآخر للإرهاب، مهما اختلفت شعاراتها.